المأزق الإسرائيلي
د. أحمد يوسف
وسط عمليات القتل الهستيرية للبشر وأعمال التدمير الوحشية الهائلة، التى لا تُلقى بالًا كالعادة لأى اعتبارات قانونية أو إنسانية، قد يتصور قادة إسرائيل أنهم فى طريقهم لأن تكون لهم اليد العليا فى غزة وكل فلسطين بل والشرق الأوسط وفقًا لتصريحات رئيس وزراء إسرائيل بأن عمليته العسكرية فى غزة ستغير الشرق الأوسط فى غرور لا أساس له، لكنه يتسم بالخطورة، لأنه إذا كان هذا الرجل يعتقد بصحة ما يقول فى إقليم توجد به قوى طبيعية وقادرة كمصر وتركيا وإيران فإن علينا توقع المزيد من السياسات والقرارات، الغبية التى لا تُنتج إلا ما نراه اليوم من نتائج متوقعة لهذه السياسات والقرارات التى تعمى عن رؤية المشكلات الحقيقية، وتتجاهل أبسط الحقوق الإنسانية، وتتوقع ألا يؤدى هذا إلى كوارث كالتى تراها الآن، فتصور اليد العليا لإسرائيل فى فلسطين والمنطقة ليس سوى وهم، صحيح أننا ندفع بسببه ثمنًا باهظًا كما يجرى الآن فى غزة، لكن هذا ليس سوى حلقة كئيبة وقاسية من عملية تاريخية طويلة ومعقدة لابد أن تفضى فى النهاية إلى الحق والعدل طال الزمن أم قَصُر، ومن لديه شك فليراجع كفاح الشعوب المغلوبة على أمرها عبر التاريخ القريب فى الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا وأفغانستان وغيرها الكثير، بل إن الفرضية الرئيسية فى هذه المقالة أنه بغض النظر عن نتيجة المعركة الراهنة فى غزة فإن إسرائيل تواجه مأزقًا حقيقيًا وخطيرًا متعدد الأبعاد سوف يؤثر على مستقبلها دون شك.
وأول أبعاد هذا المأزق أن ادعاءها بأن حماس جماعة إرهابية لا تمثل الشعب الفلسطينى يتناقض مع تركيز آلة الحرب الجهنمية فيها على إبادة الفلسطينيين فى غزة الذين لا يؤيدون حماس وفقًا لزعمها، وقد تابعت كثيرًا من الفضائيات العربية والدولية فلم أشاهد فلسطينيًا واحدًا رغم الجحيم الذى لا يُحْتَمَل فى غزة ينتقد المقاومة، وهو ما لا يبدو أن إسرائيل يمكن أن تفهمه فى يوم من الأيام بسبب العقلية الاستعمارية لنخبها الحاكمة، فأهل غزة، الذين أعرف من خلال أبنائى الغزاويين الذين دَرَّست لهم يومًا يضمون قطاعات معارضة يُعْتَد بها لحماس، لكن ثمة فارقًا كما علمنا أستاذنا الراحل حامد ربيع بين الاتجاه العام والاتجاه الخاص، فقد تعارض فئة أو فئات أيديولوجية حماس وأسلوبها فى الحكم عمومًا، لكن خصوصية مقاومة المستعمر تجمع الكل، وإذا كانت إسرائيل تدعى كثيرًا أنها لا تهدم سوى البنايات التى توجد فيها مكاتب حماس ومساكن قادتها، فكيف تبرر إذن المشاهد الدامغة لقتل الأطفال والنساء؟ ولقد سمعت فى الفضائية البريطانية بالعربية مستشارًا سابقًا لبيل كلينتون يقول سُخْفًا لا نظير له مفاده أن زوجات رجال حماس يجب أن تعرفن أن ازواجهن إرهابيون، وبالتالى عليهن أخذ أطفالهن والابتعاد بهم عن القصف! والحمد لله أنه لم يقل إنهن وأطفالهن يستحقون القتل لأنهم أُسَر رجال حماس، وبغض النظر عن هذا السُخْف الغبى أين تذهبن هن وأطفالهن، بل أين يذهب الغزاويون كافة والقصف يشمل غزة كلها؟
والبعد الثانى للمأزق الإسرائيلى الراهن رغم جبروت القتل والتدمير أن نجاح عملية «طوفان الأقصى» أفضى بالإضافة إلى كسر هيبة إسرائيل إلى الاحتفاظ بعدد من الأسرى والرهائن علمت أثناء كتابة هذه المقالة أنه يناهز المائتين، وقد أعلنت حماس أن عددًا منهم قد قُتِل أثناء القصف، وليس مضمونًا أن الإسرائيليين العاديين سوف يوافقون بالضرورة على مبدأ أن المهم هو القضاء على حماس بغض النظر عن سلامة الأسرى، ولذلك فإنه بالإضافة إلى الغضب الطبيعى لما لحق بإسرائيل من إهانة نتيجة الإحكام والنطاق الواسع والبراعة التى تمت بها عملية «طوفان الأقصى» سوف يكون هناك الغضب الأشد من أسرهم، وسوف تواجه الحكومة الإسرائيلية فى هذا الصدد نوعين من الضغوط، الأول يتجه إلى ضراوة العمليات القتالية وما يمكن أن تفضى إليه من مساس بسلامة عدد غير قليل من الأسرى، والنوع الثانى يتصل بالمفاوضات العسيرة التى يجب أن تتم بعد أن يهدأ القتال أو ينتهى نظرًا لضخامة التنازلات التى ستُطلب من إسرائيل مقابل الإفراج عن أسراها، والتى من المتوقع أن يطالب فيها الجانب الفلسطينى بالإفراج عن الكل مقابل الكل، فإذا امتنعت إسرائيل عن الاستجابة لهذه الطلبات وواصلت القتال فسيكون مصير الأسرى بالتأكيد معرضًا لخطر داهم لا شك سيفضى لتداعيات سياسية داخلية أكيدة، ويكاد يكون من المسلم به أن تسقط الحكومة الحالية إن لم يكن فورًا ففى أول انتخابات قادمة، بعد أن أفضت سياساتها وهى الأشد تطرفًا فى تاريخ إسرائيل إلى «طوفان الأقصى» وتداعياته.
أما البعد الثالث والأخير فيتعلق بانعكاسات العمليات العسكرية الإسرائيلية على الرأى العام العالمى بسبب الوحشية التى تتم بها الغارات الإسرائيلية على غزة وحرمانها من المياه والكهرباء والدواء، ومحاولة إجبار سكان فلسطين عل النزوح داخل غزة من شمالها لجنوبها، أو طردهم باتجاه مصر، وسوف يسبب هذا صداعًا لإسرائيل لأن فداحة الجرائم التى ارتكبتها أدت كما بدا يتضح بالتدريج إلى البدء فى مراجعة عدد من الدوائر الدولية لمواقفها من أحداث غزة، وبدأ التداول لأشرطة فيديو عديدة لرجال ونساء وتجمعات بعضها يهودى تدين ما حدث إدانة قاطعة، ناهيك بالتظاهرات الجماهيرية العارمة فى عديد من المدن الأمريكية والأوروبية والعربية، ومع أن السلوك العسكرى الإسرائيلى فى غزة ليس جديدًا على السجل الإسرائيلى فإن الانفلات التام لهذا السلوك سوف يُسَهل كثيرًا الإساءة لصورة إسرائيل التى تروج ويروج لها أنصارها أنها واحة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة، وهو تطور نحتاجه بشدة فى المعركة الممتدة من أجل استرداد الحقوق الفلسطينية وحماية الأمن العربى.
نشر من جريدة الاهرام