المسلسلات التلفزيونية الرمضانية والإلحاح على الاستسهال!
اللهم اجعله سوء فهم فعالاً:
المسلسلات التلفزيونية الرمضانية
والإلحاح على الاستسهال!
د.هاني الصلوي
كاتب وأكاديمي يمني
يستغرب كثير من نقاد الدراما اليمنية من المفرطين في التشاؤم، متابعة اليمنيين من أقاصي الشرق حتى أقاصي الشمال والجنوب، من حماس المشاهد اليمني ومتابعته للمسلسلات اليمنية، والرمضانية منها خصوصًا!: لماذا يثيرون كل هذه التفاعلات حول المعروض؟! لمَ يتحلقون وقت العرض حول الشاشة؟! هذا من جانب، ومن آخر: لماذا يقومون بكل هذا بينما يسيطر على الوطن وأهليه سوء العيش، وحالة البلاد الدفاعية ضد أعدائها، التي هي في غاية السوء، وانعدام الأمن، والأحوال المادية بائسة، وضياع الفرص، وانتهازيات جُل الساسة، ووو… إلخ؟!، كيف يجدون الوقت؟!
والواقع أن هذا الاستنكار الاستفهامي، إن حدقنا جيدًا في المشهد، سيؤدي بلا شك إلى حجة قوية مخالفة، فنتيجة نقيضة تمامًا لما يقوله هؤلاء وغيرهم من المثبطين، فليس ما يعتمل داخل مواطننا من خيبات يؤججها كل لحظة فاعلوه السياسيون وعدم الإدراك العام، من الفعاليات الساذجة والتقريرية الحاملة لبذور تغافلها وتجاهلها واعتبارها عابرًا من المستحسن عدم إيلائه الاهتمام، بل إنها فعاليات وممارسات في غاية الخطورة، ومن هنا وجب الالتفات إليها ومناقشتها بجدية، فاليمنيون، بجانب احتياجهم إلى قصة يعيشون معها ردحًا من الزمن، قصة تنتشلهم من واقعهم المر كون، فالشعوب التي لا حكايات لها تموت من البرد” حسب العبارة رائجة التداول هذه، إذ يعيش اليمنيون خلال فترات المسلسل الوجيزة، بعض التغلب على الواقع البائس وتجاوزه؛ ينتصرون من خلال هذه الأعمال، رديئة كانت أو متفوقة، ليقولوا لأنفسهم، داخل ورطتهم الوجودية، : إن لم تنتصر الشرعية اليمنية على الميليشات الحوثية منذ سنوات، فمما لا شك فيه أن أبطال مسلسلاتنا من الصالحين سينتصرون في نهاية رمضان، إنَّ “عبد الرحمن الجمال”أدى دوره الممثل محمد الأموي”” في مسلسل بيت الجمالية المعروض على “يمن شباب”،سوف ينتصر في نهاية شهر رمضان على” عوض هاشم””، وعلى عمران، وراجح “هديل عبد الحكيم”، و”شاكر”، سوف تتمكن أروى”سالي حمادة”، ومعها أهل القرية من الانتصار على المتنفذ حارث نعمان “نبيل حزام”، في طريق إجباري “بلقيس”، سوف ينهزم الشيخ راجح”عبد الله يحيى إبراهيم”، أمام إصرار درة”أماني الذماري”في مسلسل درة”عن قناة المهرية”، كما أن أهل البادية الديرة في مسلسل”دروب المرجلة الجزء الثاني”قناة السعيدة، سيخلِّصون قبيلتهم من قاطع الطريق فزاع”مطهر رحيمان”، وقل نفس التفسير عن مسلسل “بيت وقف” في عدن المستقلة، حيث سينتصر أصحاب البيت على أطماع عاقل حارتهم في السيطرة على بيت عائلتهم، وسيكشفون كل ألاعيبه!
يحتاج أهل بلادنا، المستباحة، إلى سردية لا تأخذ سوى شهر من الزمن، على العكس من سردية تحرير اليمن التي لا يعرفون طريقة لحدوثها أو لتحققها، إذن!، ستقول معي، ولكن ماذا عن النصوص التي تشكلت منها هذه المسلسلات الرمضانية؟! أكانت في مستوى ما منحها المشاهد اليمني من وقت؟! هل أسعفتهم ببعض الوقود الروحي لمواصلة أيامهم القادمة؟! هل أسعفتهم بحكايات قابلة للتوالد في القادم؟! هل أشبعت نهمهم الإنساني؟!
مثلما قدمت هذه الأعمال نقاط ضوء عديدة لن نتغافل عنها في السطور القادمة، وقعت في إشكاليات بنائية كثيرة، يمكن مناقشتها من مستويات، وزوايا وعدسات مختلفة، فالحكاية، إن انطلقنا منها، لم تكن بالجديدة أبدًا، بل حكاية دأبت على سردها، طيلة تاريخها، الدراما اليمنية، وهو ما يعرفه المشاهد اليمني، ولا يغفل عنه، وهو يعير هذه المسلسلات كامل انتباهه، وناهيك عن تشابه حكايات دراما رمضان مع ما سبق، فحكايات مسلسلات رمضان تتشابه أفقيًا، مع بعضها داخل سرديات هذا العام، ولننظر مثلاً إلى ثيمة الهروب إلى الخال، فسنجد شاهين”صلاح الوافي”، هاربًا في ديرة خاله الشيخ”صخر” في دروب المرجلة، ومحراش”مبارك متاش” لاجئ في قرية الحصن، قرية خاله”قرية الحصن، وكذلك ياسر في المسلسل نفسه عند خاله المهرب عمران، أما في بيت وقف فقد عادت سميحة وابنها وابنتها”رويدا الربيح”، إلى بيت والدها”البيت الوقف” للعيش مع إخوتها وأختها، وإن اختلف الغرض هذه المرة، ما يعني أن ولدها وابنتها سيعيشان عند خاليهما؛ نشوان عدنان”قاسم عمر”، وحيدرة” ، وعلى هذا فقس.
وتمثل ثيمة نهب الأراضي مكونات لحكاية عابرة للمسلسلات اليمنية، فليس ثمة مسلسل يمني لا تحضر فيه بقوة، مع اختلاف بسيط في التناول؛ يأخذ مسلسل درة على عاتقه متواليات عدة لهذه الحكاية، فكل حركة المسلسل متوقفة عليها، على الأراضي التي يريد الشيخ جراح الحصول عليها، من أجل بناء مصنع، وقد بلغ حضور هذه القصة حد تغطيته على ما كان من الممكن أن يشكل قضية المسلسل الرئيسة، وأعني قضية المرأة ونظرة المجتمع إليها، القضية التي كرس لها المسلسل كامل ميكانيزماته وفشل في جعلها القضية الأساسية، حيث درة التي أبدعت أماني الذماري في تجسيد شخصيتها، فغدت أطماع جراح هي قضية المسلسل الأبرز، أما مسلسل”بيت وقف” فتتمحور قصته في رغبة عاقل الحارة ووراؤه متنفذ كبير، في بيع بيت إحدى العائلات، من أجل الحصول على عمولة كبيرة.
ولا يختلف الأمر مع الجمالية، حيث استطاع عوض هاشم السيطرة على عدة قرى من خلال شراء أراضيها، وعجز عن شراء أراضي قرية الحصن، وهو أمر تسابق فيه مع عدل القرية عبد الكافي”فهد القرني”، مع اختلاف النية، وعبد الرحمن، كما تمثل في تسبب خلاف على الأرض بين سعفان وأخيه قاسم، على أرض موروثة لهما، مما جعل سعفان يلغي خطوبة ابنته بدور من ياسين ابن قاسم، وأخذت القضية موضع الخلاف هذه زمنًا طويلاً من المسلسل، وحارث نعمان في طريق إجباري، يقوم بإقراض الناس المال، وعندما يحين موعد التسديد، يجبرهم على بيع أرضهم له، وتزويجهم إياه بناتهم القاصرات، كما أن خلافه مع عدوه لاحقًا”أبو صقر”” الدعيس”، ليس سوى على شراء الأراضي، وهي قضية تمحورت حولها حياة حارث نعمان بكاملها، فأساس خلافه مع ابنه المضطرب نفسيًا غانم”نبيل الآنسي”، هو سلوك حارث الشائن، مع زوجته الشيخة مريم أم غانم، وقتلها رميًا في البئر، بحضور ولدهما غانم، من أجل الحصول على أموالها الكثيرة، وأراضيها، ويتعدى الموضوع حتى إلى مسلسل فكاهي، من ٢٣ حلقة، هو “عرسان الهناء” “قناة السعيدة”، والذي وإن كان إلا القليل منه مستنسخًا من مسلسلات عربية مشابهة عن الثيمة نفسها، حيث مبروك “الجماعي”، المتطفل كان قد سطا على أرضية خالته زوجة أبيه شكرية”رأفة صادق”، وأجبره موقف ما على إعادتها إليها.
وإذ نؤكد على كيف وقعت دراما رمضان في فخاخ من التماثل، فلست أهدف عدا إلى لفت الأنظار، إلى معضلة أن يقع منتجو هذه الأعمال في هكذا معضلات، بينما يعيشون في بلد باذخ الثراء بالحكايات والقصص، هو اليمن، وهل لنا غير ذلك!، حيث تعد بلادنا مخزنًا لحكايات الإنسانية، فهي بلاد الأسلاف، كما تقول بعض نقوش الحضارات القديمة المعاصرة لحضاراتنا الأولى، وهو ما يتناغم مع مقولة بسيطة من أن اليمن أصل العرب، ولننظر حديثًا إلى تغريبة اليمني، وتوزعه في الأسفار، وهل كان معاوية ابن أبي سفيان، بالتزامن مع مسلسل معاوية، سيمارس جلساته الحكمية، والسياسية، لولا مرويات عبيد بن شريه الجرهمي، ووهب ابن منبه؟! الكتاب اليمنيون كثر كثر، وكان من الممكن جدًا العمل على نصوصهم.
لقد تشابه البقر علينا!، وتطابقت حكايات أعمالنا الدرامية، وما أشرت إليه ليس سوى بعض نماذج بسيطة، بإمكان متتبع بسيط أن يجد الكثير منها، وهو نقاش يقودنا إلى النص نفسه الذي بنيت عليه هذه الأعمال، النصوص نفسها؛ هل اعتمدت المسلسلات موضوع التداول نصًا متشابهًا؟! هل انبثقت عن نصوص جيدة أو لا؟!
يدرك الناظر المدقق، وغير المتفحص، افتقار أعمال رمضان، إلى نص متميز، وثري، مكتوب أو منشأ بعناية فائقة، وتتشابه قصة النص هنا، مع ما ذكرناه عند الحديث عن الحكاية، فكما طرحنا لحظتئذٍ كيف كان من الممكن الإفادة من كتاب القصة والرواية في اليمن من أجل تقديم حكاية جديدة، يمكن سحب الاقتراح نفسه على قضية النصوص في المسلسلات اليمنية، فلمَ لم ينتبه منتجو تلك الأعمال إلى الكاتب والسارد اليمني؟!
من وجهة نظر منصفة، وكي لا يفسر طرحي بأنه انحياز للنص المكتوب “قصة-رواية-سردية مفتوحة”، تنبغي الإشارة هنا، إلى عقيدتي فيما يخص المصادر المكتوبة للأعمال الدرامية وحتى المسرحية!، والتي ليست مثالية طوباوية تتمحور في القول إما بنص مثالي البناء والسياق أرسطي قائم على المنطق وما يقتضيه هذا الفن/العلم من اشتراطات نصية توجب احتواء النص على مقدمة”مطلع-استهلال-بدء …”، وموضوع، وخاتمة، بناء متوسط وغير متناقض، وحيوي يماثل الجسم الإنساني من حيث تكامل أعضائه، وإما ببناء نصي محدث واقعي أو برجماتي، كما لا تلزم منتجي الأعمال الدرامية بنص لحظي يشترك في إنتاجه جميع الفريق الفني، بجانب عصبة من المستشارين الفنيين، والمشتشارين والفاعلين الثقافيين والاجتماعيين، ما يعني، فيما يتعلق بما أشرت إليه من عقيدة تخصني، عدم انحيازي لأي من هذين الشكلين الإنتاجيين وتفرعاتهما، بل إن مدار الحركة في موضوع هذه التناولة هو صلاحية هذه التفرعات جميعها لخلق نص مبهر، فالشأن هو إنتاج نص/نصوص عالية التقنية من حيث تقديم جديد حكائي، واستبطانات حوارية عميقة، وانسجام سياقي، وحركة تطور فاعلة، بجانب اكتمال وتكامل سائر عناصر الفن، دون إغفال إشراك المشاهد المتلقي في كل برهة من المسلسل أو العمل الفني عمومًا.
وإذ ننخرط في مساءلة مسلسلات رمضان المنقضي اليمنية، سوف نستهل العملية، من محاورة متجاذبة تحقيق المسلسلات موضوعة المناقشة، ومدى تمكنها من تقديم نص جيد ومدهش وفق ما أشرنا إليه، أم أنها عجزت عن ذلك، مع تأكيد تفاوت المسلسلات اليمنية في هذه الناحية أو تلك، وهو شأن سائر الأعمال الإنسانية، الفنية والطبيعية كلها، فما أن تنظر في الأعمال قيد المباحثة، حتى يتكشف لك دون عناء افتقارها إلى الجدة والابتكار في جوانبها النصوصية، والأنكى في هذه الزاوية، عدم توافرها على نص متماسك أو هذياني فاعل، وعدم قيامها، أيضًا في الوقت نفسه، على نص “ورشي” “بكسر الواو وفتح الراء وكسر الشين إن جاز استخدام هذا المصطلح”، تأكيدًا، أي على نص تفاعلي يتعاضد الجميع على إنشائه، ومن هنا تخلت مسلسلاتنا عن ديناميكيات وميكانيزمات هكذا تفرعات خالقة.
على أن حديثنا عن مأزق تعذر استناد هذه الأعمال إلى ما هو معروف وممارس من إنشاءات إبداعية، لا تفتأ تتعملق وتتنامى، لن يفضي إلى سلب كل تميز نصي عن مسلسلات رمضان، لكي لا نقع في فخ تجريد المنقود من أية حسنة أو تميز، لأن هذه الأعمال، على تفاوت ملحوظ، قد قدمت بعض عناصر النصية الفيلمية والمشهدية بحرفية عالية، لكن مثل هكذا إبداع أتى دائمًا على حساب العناصر الأخرى، وقد أفسد جدية حركيات هذه البواتق الدرامية، دفق جارف من السخرية والتهكم، لم ينج منه سوى مسلسل”طريق إجباري”.
ولقد امتاز “طريق إجبارى” ببناء درامي مدهش، لطالما تسمَّر المشاهد أمام همجيته الفاعلة، وهيكل حواري ذكي ومرن، وإن قلل من ذلك تلاشي الحوار العميق في بعض المشاهد لصالح تقريرية ساذجة، وافتعال عقيم، وكذلك تصلب شخصية أو اثنتين فيه، وعجزهما عن الخروج من كيانيهما الحقيقيين “الواقعيين”، بل لقد استطاعت الشخصيات الحقيقية لهاتين الشخصيتين إهانة الدورين المنوطين بهما في المسلسل، وإبعادهما عن العمل الفني، وهو حكم يسري على المسلسلات الأخرى، بحيث نجزم أنه كان من الواجب على مخرجي هذه الأعمال أن يستبسلوا في تقييد الأدوار المسلسلاتية إلى الشخصيات الحقيقية بالجنازير الثقيلة، والأغلال الصلبة، رغم إيماننا أنهم سيفشلون في تحقيق المراد!
جنت ما أشرنا إليه من ميزتين، في “طريق إجباري”، على فضاءات النصية الدرامية الأخرى، أما مسلسل “الجمالية”، فقد انتصر لبناء القصص المتوازية، وهي ميزة مبدعة، وللإلماح في مواقف كثيرة منها تلمسه الواعي لوجوده ومقدرة عدو متغلغل في البلد، لا يتوانى عن إرساء خرائبه ومكائده طيلة الوقت، مع ما يقف عليه من إمكانات، كما أعلى من شأن التوغل في هموم الإنسان كما فعل في مناقشة قضية تعدد الزوجات، حيث استطاع إبراز البعد الإنساني لهكذا ممارسة، وطقس، وهو ما يتجلى بوضوح تام في جدالات ومناكفات خيرية وأمرية، وكل هذا سببه استناده لنص تقليدي ومكرر، وبثه سخرية ساذجة أودت بكثير من تصاعدية البناء الدرامي، ولعل في تعليقات”عبد الرحمن”، المستمرة داخل تضمينات المسلسل أبرز النماذج على ما نطرح.
ويعزز هذا في”الجمالية”، ما اكتنف العمل من وعظية فجة، نستثني من ذلك تعليقات عبد الكافي الوعظية لمناسبتها للشخصية ودورها الوظيفي، وأعلى ذرا الوعظ في “الجمالية”، في آخر دقائق الحلقة الأخيرة، مع ظهور عمران بثوب جديد، كان يكفي تناوله إيماءً، أما في “بيت وقف”، فتجلت ظفائر من السمات الجمالية الفيلمية، سمات لم يستطع تقصير منتجي المسلسل في الدعاية الإعلامية له، أن يخفيها، وهو حقًا عمل بديع، أطاحت بتفرده ممارسات نصية ومشهدية هزيلة مثل سيطرة الفكاهة في كثير من الأحايين، وتبسيط كثير من العقد الحكائية، وعدم التمعن المشهدي في تحركات الممثلين، وملامح الشخصيات الجسمانية، ومنها تقاطعات ملامح الوجوه وتفاعلات العيون.
نجا مسلسل “بيت وقف” من كثير من العثرات التي وقعت فيها المسلسلات الأخرى، مثل الارتباك اللهجي، من تعدد اللهجات في العمل، حيث جاءت لغته ولهجة ممثليه منسابة بشكل مثالي، تراقصت فيها لهجة عدن عذبة ورقراقة، لا معاضلة فيها، بحسب المصطلح التراثي، كما تناسبت إيقاعات الممثلين مع همس التعامل العدني، وتحديقه في المآل، بينما احتفلت بقية المسلسلات المذكورة، بكرنفال من اللهجات اليمنية تموضعت في الغالب في غير محلها، ولا نستثني من ذلك، بالإضافة إلى “بيت وقف”، سوى مسلسل”عرسان الهناء”، نكتب هذا هنا، مع الإشارة إلى كون الارتباك اللهجي في غير هذين العملين، لم يسببه تعدد اللهجات بقدر ما سببه انعدام التبرير الفني المقبول لهكذا حضور لهجاتي موزاييكي، ما كان سيمثل جمالاً اختلافيًا بارع الحضور، لو مارس معه مخرجو الأعمال ديناميات تبرير مقنعة.
أما عن المكان، بوصفه نصًا، فإن مسلسلي “بيت وقف”، و”عرسان الهناء”، ليقفان في صف، بينا تتمترس بقية الأعمال في طابور مقابل، إذ تكاد تكون أجواء المكان في هذا الطابور غارقة في الطابع المكاني عينه، ومع أنها صورت في تعز، فلم يكن هناك من داع إلى تكرار السياق المشهدي نفسه، وقد كان بيد منتجي ومخرجي هذه الأعمال اللعب الذكي على تنوعات المكان في تعز، وخذ مثلاً جو الخضرة المسيطر على مشاهد”دروب المرجلة”، رغم أن بيئة هذا العمل الفني صحراوية وبدوية ضاربة في البداوة، والجفاف!، ومن هذا المنطلق ارتأينا لفت الأنظار إلى المكان الساحلي والبحري العدني في” بيت وقف”، وجو الحارة العادية في”عرسان الهناء”.
اختارت مسلسلات رمضان، لأكن صريحًا!، المشي في خطوط باردة مثلجة، لم تتجاوزها في بعض الأحيان إلا إلى اشتعال مفتعل، وقد كان بالإمكان تخطي كومة المزالق هذه، المزالق التي تتحدر عللها من ضعف روح الفريق في سائر المسلسلات اليمنية الرمضانية، موضوعة الكتابة هنا، وهو ضعف ضخَّمه وفاقم أمره، الركون الإداري والفني إلى الاستسهال، وتجاهل القدرات الفردية للممثلين في سياقات الجماعية، أما الأداء الفردي لشخصيات وممثلي هذه المسلسلات، فقد مثل في المجمل فعليات وممارسات وتألقات جمالية على درجة قوية من البلاغة والتفنن، وبالأخص لدى الوجوه الجديدة، ومن سينسى على سبيل الإجمال والإيجاز، تلك التحليقات الرائعة والمثيرة للممثلة سحر الأصبحي، في كل أدوارها العابرة للمسلسلات اليمنية، وكذلك، وعلى نفس المنوال، الممثلة رويدا الربيح، وأدوارها العابرة، ونجيبة عبد الله في دروب المرجلة، وفي الجمالية خصوصًا، وحتى هديل مانع من الشباب، رغم حملة سابقة شنت عليها، التي مارست حيوية بالغة في دروب المرجلة، ودرة، لا يمكن أن نغفل أدوار الفنانات والفنانين؛ قاسم عمر، زيدان العبيدي، وصالح العولقي، ورأفة صادق، التي تجلت بحيوية أخاذة، في كل أدوارها.
ثمة تألق فردي لكثير جدًا من الممثلين اليمنيين، وثمة جوانب مشرقة في سائر المسلسلات اليمنية المذكورة، وغيرها مما لم نتناول، مثل مسلسل الزوبعة، وربما نتحدث عنها في مقالات لاحقة، ولا تفوتنا هنا الإشادة بالتصوير الذي ربما كان واحدة من العلامات الجيدة في الأداء والاختيار الفني مع مدير تصوير كرحيم الصالحي، داخل هذه الأعمال، رغم رداءة اختيار الملابس، وإشارتها الدائمة إلى الفقر الذي لا يعني عدم النظافة أبدًا، كما لا يفوتنا في النهاية، وياللمفارقة! التاكيد على كيف أن نهايات هذه المسلسلات أتت قبلية تصالحية، لا نستثني من ذلك حتى مسلسل بيت وقف، وخطابية مباشرة، ماعدا نهاية النهاية من مسلسل درة “مقتل بسمة”، والتي أتت طبيعية ومنسجمة تمامًا مع مسارات المسلسل، وقد أخَّرت مثل هذه التناول إلى هذه السانحة للاطلاع على ردات الفعل اللاحقة لهذه المسلسلات، لا سيما ما تمثَّل في لقاءات العيد التي أثارت العديد من الإشكاليات، والتي بدت ساذجة إلى حد كبير، أبان عن سوء تقدير فني هائل لدى ممثلينا، وفعلاً، فعلاً: لا تغني بومة منيرفا إلا في الغلس، على رأي العزيز هيجل، ودمتم بخير!